ويقول رحمه الله: (وقد روى
محمد بن نصر المروزي بإسناده أن
عبد الملك بن مروان كتب إلى
سعيد بن جبير يسأله عن هذه المسائل) لأن
عبد الملك بن مروان ظهرت في أيامه المشكلات بين
المرجئة وبين
الخوارج وغيرهم، فكتب إلى هذا العالم وهو من أعظم علماء الأمة في أيامه، وهو
سعيد بن جبير يسأله عن الإيمان ونحوه من الكلمات التي إذا استعملت مطلقة أو مفردة، أو ذكرت في آية وكانت مفردة هل تشمل كل الأعمال، وهل إذا اقترنت بغيرها فهي بحسب ما يقيدها؟ فكتب إليه الجواب: (سألت عن الإيمان، فالإيمان هو التصديق أن يصدق العبد بالله -هنا الشاهد إذ عرفه بأنه التصديق، لكن أي تصديق؟ وملائكته، وما أنزل الله من كتاب، وما أرسل من رسول وباليوم الآخر، وسألت عن التصديق -أي إن أردت أن أشرح لك التصديق- فالتصديق أن يعمل العبد بما صدق به من القرآن) فالتصديق هو العمل (وما ضعف عن شيء منه وفرط فيه) أي: فإن لم يعمل بكل شعبة من شعب الإيمان بأن ضعف عن بعض الشعب وفرط فيها قال: (يعلم أنه ذنب ويستغفر الله ويتوب)، وذلك يعني ألا يكون مصراً، فالمؤمن مع كل شعبة من شعب الإيمان لا يخلو إما أن يعملها ويأتي بها فينال أجرها، وإما أن يقر بأنه مذنب ويستغفر الله تعالى ويتوب، فهو بين الطاعة والتوبة، بين الامتثال والاستغفار، أما أن يعصي الله أو يذنب ولا يتوب ولا يستغفر ولا يبالي، فليس هذا من صفات المؤمن الصادق. ثم قال: (فذلك هو التصديق، وتسأل عن الدين فالدين هو العبادة، فإنك لن تجد رجلاً من أهل الدين ترك عبادة أهل دين، ثم لا يدخل في دين آخر إلا صار لا دين له).أي: أن الدين هو العبادة بدليل إنك لا ترى رجلاً ترك عبادة أهل دين، بأن كان يهودياً فترك
اليهود وشعائرهم وأعمالهم التعبدية كلها، ثم لم يدخل في دين
النصارى فيكون نصرانياً، أو يدخل في دين الإسلام دين الله الحق بل بقي هكذا فإنه يكون بلا دين، وإن كان في الاسم أو المولد يهودياً، وهذا قد كثر في هذه الأيام، فأكثر أهل الأديان في هذا الزمن المادي الموبوء بالضلالات والفلسفات والبدع والفجور تجدهم يعيشون عيشة بهيمية واحدة، ثم إذا سألت عن الدين ترى من يقول: هو يهودي، وآخر يقول: هو مسلم، وآخر هو نصراني، فهؤلاء لا دين لهم في الحقيقة؛ لأن الدين هو العبادة، فمن لم يتعبد بما يدين به فلا دين له.قال: (وتسأل عن العبادة فالعبادة هي الطاعة، ذلك أنه من أطاع الله فيما أمره به وفيما نهاه عنه فقد آثر عبادة الله، ومن أطاع الشيطان في دينه وعمله فقد عبد الشيطان، ألا ترى أن الله قال للذين فرطوا: ((
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ))[يس:60]).ومعنى العبادة هنا الطاعة والاتباع، قال: (وإنما كانت عبادتهم الشيطان أنهم أطاعوه في دينهم) أي: تدينوا بما أمرهم به الشيطان، وهو العدو المبين، وتركوا ما أمرهم الله تبارك وتعالى أن يتدينوا به، فلما أطاعوا الشيطان وعصوا الرحمن جعل ذلك عبادة منهم للشيطان، فالشاهد أنه رضي الله عنه فسر التصديق بأنه العمل، وقال: التصديق أن يعمل العبد بما صدق به من القرآن. فإذاً: كلام التابعين رضي الله عنهم يصدق ويؤكد كلام أهل اللغة، وكل هذا كما أخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح يدل على أن التصديق يكون بالعمل. وهناك أيضاً آثاراً أخرى دالة على ذلك كما قال
شيخ الإسلام رحمه الله: (قال
أسد بن موسى حدثنا
الوليد بن مسلم حدثنا
الأوزاعي حدثنا
حسان بن عطية قال: الإيمان في كتاب الله صار إلى العمل) أي: يئول إلى العمل ويرجع إليه، فلو تتبعت الإيمان من القرآن إلى أين ينتهي تجد أنه ينتهي إلى أن تعمل وتنقاد بجوارحك، ومثل لذلك (قال الله تعالى: ((
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ))[الأنفال:2] قال: ثم صيرهم إلى العمل فقال: ((
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ *
أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ))[الأنفال:3-4]) فبين أن الإيمان لا بد أن يتبعه العمل، فإذا ذكروا الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً، وعلى ربهم يتوكلون، وهذه كلها عبادات قلبية: الوجل، وزيادة الإيمان، والتوكل، ثم قال: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) فأتبع ذلك بعمل الجوارح، وأتبعه بعد الصلاة بالزكاة والإنفاق العام، بالزكاة المفروضة وبكل ما ينفقه العبد مما رزق الله لوجه الله، ثم بين: (أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) فمن يقول: أنا مؤمن حقاً ولم يعمل هذه الأعمال يكون قد افترى وكذب.